وصفةٌ طبيّةٌ حازمة!
وصفةٌ طبيّةٌ حازمة!

خاص - Sunday, July 4, 2021 7:12:00 AM

النقيب السابق لمحامي الشمال، الوزير السابق رشيد درباس

 

لم تنطلِ على طبيبي الفكاهات التي أحاول أن أُدخلها على رنَّات "ناقوس في أحد" من "صوت كل لبنان"، إذ لاحظ بأذنه الثاقبة منسوب الحزن الذي يرتفع كلِّ أسبوع، ووتيرة التهدُّج التي تعبث بأوتار الصوت، فبادر فوراً إلى كتابة وصفة طِبِّية حازمة، على ورقة من روشتات عيادته، بخطٍّ فرنسي بالغ الأناقة والاستقامة التي لا تأتلف إطلاقاً مع مكنون الدواء ومكوناته وآثاره المباشرة، وغير المباشرة، ذلك أنّ الاسم الفرمكولوجي للعُقار هو: Enivrez- vous، أي إثملوا.

فلما ذهبت بالوصفة إلى جارنا الصيدلي اعتذر مني بلباقة وأحالني على خمّارة قريبة، التي اعتذر صاحبها بدوره، بحجّة فقدان الصنف لارتفاع الأسعار، كما حال معظم الأدوية، فوقعت في حَيْرَةٍ، فحاولت أن أفُكَّ الطِّلَّسْمَ علَّني اتوصل إلى معرفة العناصر لأتولى تركيبها من حواضر البيت على طريقة أهل زمان، ولكنني فوجئت بأنّ الروشتة لا تحمل توقيع الطبيب، بل توقيع شارل بودلير، فردَّني الأمر الى البحث عن تفسيرها بمعالجة غير كيماوية، فوجدتني في خِضَمِّ كِيمِياءَ روحيةٍ، تَهَبُ العيون اجنحة تجوب فضاءات الخيال، وتسكب في الآذان ألحاناً من ينابيع زلال، فأعادني الأمر إلى الشاعر الاندلسي ابن شبل الدمشقي الذي قال :

ثَقُلَتْ زجاجاتٌ أتَتْنا فُرَّغا

حتى إذا مُلِئَتَ بِصِرْفِ الراحِ

خَفَّتْ فكادتْ أَن تطير بما حَوَتْ

وَكَذا الجُسُومُ تَخِفُّ بالأرواحِ

فوقع الحافر على الحافر كما تقول العرب، وكأنما السُّكْرَ ملاذٌ من اليأس، وطيرانٌ فوق ثقل الحياة، إذ يقول بودلير:"يجب أن تبقى ثملاً دائماً، كي لا تشعر بأحمال الدنيا المريعة، ولا بالوقت الذي يكسر كتفيك، يجب ان تبقى ثملاً دون توقف، ولك ان تختار من  أجل ذلك نبيذاً أو شعراً او فضيلة، ولكن يجب أن تبقى ثملاً، فإذا صحوت من بعد سكر، إسأل الهواء والموجة والساعة والنجمة والعصفور وكل ما يمر وكل ما يدور، وكل من يُغَنِّي:"ما هو الوقت الآن" لكان الجواب واحداً:"إنها ساعة السكر، فلا تبقَ عبداً للوقت و لا تكف عن احتساء النبيذ، او الشعر او الفضيلة التي ترتضيها".

لم يفاجئني طبيبي بإحالتي إلى عَطَّارٍ من القرن التاسع عشر إسمه بودلير، يوحي لنا ظاهره بأنه يفرّ من الحياة، ولكنه في الجوهر يحرّضنا على الشعر والموسيقى والفضيلة، كي نُصَبِّرَ أنفسنا على متاعب الدنيا وذلك بالقفز فوقها إلى عالم الرؤى والتأمل والتطهُّر، بل وجدت إحالته هذه من صميم سلوكه اليومي، ونظرته إلى جمال الحياة، ونزوعه الدائم إلى الطبيعة، واستقالته من الكهرباء، ولجوئه إلى الزراعة والحرث والنبش وتدوير المخلفات العتيقة إلى موبيليا قروية، ومعالجة الصخرة الصماء حتى تصبح ذات أذنين، فإذا عزَّ النبيذ، بحصانه الصغير أو الأبيض أي بلغة الخمّارين petit cheval ou cheval blanc، ركب حصاناً خشبياً وراح يتلو من فوق صهوته شعر الكسندر بوشكين، ويغني الفصول الأربعة، فإذا شح العسِل - كما يلفظها -، أودع قفيره في عهدة غصون الصنوبر لكي يطِنَّ له بأغاني ام كلثوم. وإنني إذ اعترف لكم أنني ثملت بذلك النص الرائع، فلم تطاوعني نفسي ألا أشرككم معي بما انتشيت، لأن الشعر يُغْني حتى عن وَقود الطائرات لسرعة أجنحته التي لا تخلف تلوثاً بيئياً، ولهذا فإن طبيبي يمتطي الآن الفسبا المكتومة الصوت وذات المصروف الخفيف، توطئة، ووفقاً لنصحية وزير الطاقة، للانتقال إلى مركوب آخر قد لا يستطيع ان يَكْتُم نهيقه أو يؤمن عليقه أو يضبط زفيره وشهيقه، إذ ربما اختلط الأمر في قادم الأيام وتَعَكَّرت المسالك والدروب، فضاعت الفروق بين الراكب والمركوب والناهب والمنهوب والطارق والمجذوب.

 

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني