دوللي بشعلاني - الديار
تستعدّ دولة الفاتيكان على قدم وساق لليوم التاريخي المخصّص للصلاة والتأمّل من أجل السلام والإستقرار في لبنان.. وتشهد أروقتها استنفاراً كاملاً من جميع المعنيين والعاملين فيها لإنجاح يوم غدٍ الخميس المنتظر. فتحت شعار «الرب الإله لديه خططاً للسلام.. معاً من أجل لبنان» الذي تعلوه صورة سيدة حريصا متشحة بشمس الأمل وخلفها أرزة لبنان سيجتمع البابا فرنسيس برؤساء الكنائس العشرة في لبنان الذي يحمل كلّ منهم هواجس واحتياجات ومعاناة أبناء طائفته، من دون أن يكون هناك أي حضور للقادة السياسيين اللبنانيين رغم أنّ ما وصلت إليه الأوضاع السيئة في لبنان تأتي نتيجة السياسات الخاطئة المتّبعة. هذا اليوم الذي يُشكّل مبادرة جديدة تأتي هذه المرّة من أعلى مرجع روحي في العالم للقول لدول العالم أجمع بأنّ «لبنان ليس متروكاً وأنّه على شعبه التجذّر في أرضه بدلاً من التفكير بالهجرة التي تدفعه إليها الأوضاع الإقتصادية والمالية الخانقة التي يمرّ بها، ولهذا لا بدّ من مدّ يدّ المساعدة السياسية والإنسانية له»، تتجه اليه أنظار لبنان والعالم هذا الخميس لمعرفة ما سينجم عنه.
هذا اللبنان الذي لم يفوّت البابا فرنسيس فرصة إلاّ وتحدّث عنه منذ ما بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب الماضي، وصولاً الى عيدي الميلاد والفصح المجيد إذ وجّه رسالة خاصة للبنان. وفي 8 شباط الماضي تطرّق الى الوضع اللبناني أمام السفراء المعتمدين لدى الكرسي الرسولي لكي يصل نداءه الى دول العالم أجمع. وفي رسالة بعث بها الى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، أكّد الحبر الأعظم على أنّ «لبنان لا يُمكن أن يفقد هويته ولا تجربة التعايش الأخوي التي جعلت منه رسالة للعالم كلّه».
مصادر كنسية مواكبة تحدّثت عن أنّ لقاء البابا فرنسيس بالقادة الروحيين المسيحيين سيكون بالروحية نفسها التي عُقد فيها لقاء «البحر الأبيض المتوسط حدود سلام» في مدينة باري في العام 2018. فقد اجتمع فيه البابا فرنسيس بالأساقفة والبطاركة للتأمّل في دعوة ومصير المتوسط، ونقل الإيمان وتعزيز السلام.. وهذا ما يستعدّ لفعله مع البطاركة ورؤساء الكنائس في لبنان غداً الخميس في الفاتيكان. وبهذا المعنى سيكونهذا اليوم الموعود أقرب الى خلوة الصلاة هذه التي أقامها قداسته مع قادة جنوب السودان (ولكن شارك فيها آنذاك قادة سياسيون أيضاً خلافاً لوضع لبنان)، من الإجتماع الذي عقده مع أعضاء السينودس الدائم في الكنيسة الأوكرانية للروم الكاثوليك في تمّوز من العام 2019، والذي تناول مسألة إطلاق نموذج جديد من العلاقة والشركة بين البابا والكنائس الشرقية الكاثوليكية وجرى الإتفاق خلاله على قضايا مسكونية.
فلقاء البابا فرنسيس مع القادة الروحيين المسيحيين يهدف الى «خلق جبهة مشتركة»، على ما أوضحت المصادر، أي شراكة بين المسيحيين في وضع صعب ودقيق كالذي يمرّ به لبنان. ويأتي هذا اللقاء تحضيراً للزيارة التي ينوي أن يقوم بها قداسته الى «بلاد الأرز»، على ما وعد خلال زيارته التاريخية الأخيرة الى العراق عندما قال بأنّ «زيارته التالية ستكون للبنان». غير أنّ هذه الزيارة التي يؤمل أن يقوم بها أواخر هذا العام لبيروت، أو في العام المقبل لا يُمكن أن تتحقّق من دون وجود حكومة فعلية وحقيقية في البلاد.
وشهد الفاتيكان يومي الإثنين والثلاثاء الماضيين بدء وصول بعض البطاركة اللبنانيين المدعوين الى «يوم التأمّل والصلاة من أجل لبنان»، على ما ذكرت المصادر نفسها، وقد شارك بعضهم في القدّاس الإحتفالي الذي أحياه البابا فرنسيس في بازيليك القدّيس بطرس بمناسبة عيد القدّيسين بطرس وبولس. على أن يكتمل وصول البطاركة العشرة اليوم الأربعاء، كون اليوم الفاتيكاني الطويل سيبدأ الخميس باكراً.
وأكّدت المصادر نفسها، أنّ أي من القادة الروحيين لن يتخلّف عن الحضور، بعد أن أكّدوا مشاركتهم بشكل رسمي. وسيُشارك بالطبع في يوم لبنان في الفاتيكان غداً بطاركة الطوائف الكاثوليكية والأرثوذكسية والسريانية ورؤساء الكنيسة الإنجيلية، لا سيما كلاّ من كاردينال أنطاكية وسائر المشرق البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك السريان اغناطيوس يوسف الثالث يونان، بطريرك الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في أنطاكية وسائر المشرق مار اغناطيوس افرام الثاني، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للكنيسة الأرثوذكسية البطريرك يوحنا العاشر، كاثوليكوس كيليكيا التابع للكنيسة الأرمنية الرسولية آرام الأول، ورؤساء الكنيسة الإنجيلية.
وأوضحت المصادر عينها بأنّه تقرّر أن لا يكون هناك أي وجود للقادة اللبنانيين السياسيين في هذا اللقاء، رغم أنّ المعاناة التي وصل إليها الشعب اللبناني اليوم نتيجة تدهور الوضع الإقتصادي والمالي والإجتماعي والمعيشي، تعود في جزء كبير منها للسياسات الخاطئة التي اتبعتها الطبقة السياسية على مدى العقود الماضية. فالعامل الإنساني هو الذي يحتلّ الأولوية في قلب قداسته، ولهذا فإنّ الوضع اللبناني بكلّ تفاصيله سيوضع على طاولة النقاش المستديرة التي ستجمع قداسته ورؤساء الكنائس العشرة، سيما وأنّ هذه الأخيرة قد حلّت، وهذا يدخل بالطبع من ضمن مهامها الكنسية والإنسانية، محلّ الدولة، في مساعدة الشعب اللبناني على تخطّي معاناته على مختلف الصعد الإستشفائية والطبية والتربوية والتعليمية وتقديم المنح الدراسية والجامعية،والإجتماعية وإيواء العجزة والأيتام وذلك من خلال بناء المدارس والمستشفيات والمآوي وصناديق المساعدات التابعة لها.
فالبابا فرنسيس سيخوض في التفاصيل اللبنانية، التي هو على عِلم يومي بأحداثها، على ما شدّدت، من أجل التوصّل الى خلق جبهة شراكة مسيحية تُعطي حلولاً للمشاكل التي يُعاني منها الشعب اللبناني حالياً لا سيما بعد انفجار 4 آب الماضي، وتفشّي وباء «كورونا» وانهيار القيمة الشرائية لليرة اللبنانية مقابل الإرتفاع الجنوني للدولار الأميركي والعملات الأجنبية، وأخيراً مع رفع الدعم عن المحروقات والسلع الغذائية الضرورية، وفقدان مواد أساسية من الأسواق مثل حليب الأطفال والدواء وما الى ذلك.
والأهمّ من ذلك كلّه، ارتفاع نسبة البطالة، وتفكير الشباب اللبناني من مختلف الأديان والطوائف والطبقات، بالهجرة بحثاً عن فرص العمل في دول الخارج كحلّ جذري للأزمة الخانقة التي يعاني منها. وستكون الدعوة من قبل بابا الفاتيكان بضرورة التجذّر في الأرض، على ما فعل آباؤنا، وإلاّ لما بقينا نحن فيها لو فعلوا عكس ذلك. وتقول بأنّه لن يكون لدى قداسته عصا سحرية لحلّ كلّ تلك المشاكل، غير أنّه انطلاقاً من سلطته الروحية العليا سيُناشد دول العالم على مساعدة لبنان للخروج من أزمته المستجدّة. وقد تكون هذه المساعدة عن طريق عقد مؤتمر خاص بلبنان برعاية الأمم المتحدة، ليس لتغيير نظامه السياسي، إنّما لمساعدة شعبه الذي يئن من الجوع والفقر والبطالة، على البقاء في هذا الشرق، وتوفير كلّ مستلزمات هذا الأمر من خلال المساعدات الإنسانية والمالية أوالقيام بمشاريع إستثمارية وغير ذلك.فضلاً عن الدعوة الى الحياد الناشط الذي كان البطريرك الراعي قد دعا اليه مرّات عدّة خلال عظاته ولقاءاته، بالتنسيق مع قداسته، غير أنّه لم يلقَ آذاناً صاغية له في الداخل.
فما يهمّ الحبر الأعظم هو أن تتمّ المحافظة على كرامة وعزّة الإنسان، لا أن تتحوّل أوجاع الناس ومعاناتهم الى فريسة أمام جشع بعض المستفيدين، وأن تصل صرختهم بالتالي الى آذان المسؤولين المعنيين في الداخل، كما الى دول العالم القادرة على المساعدة، وذلك لإيجاد الحلول الناجعة لجميع المشاكل.
كذلك سيُركّز اللقاء، على ما أشارت المصادر ذاتها، على ضرورة التعاون بين رجال الإكليروس والشعب اللبناني والسعي الدائم الى حلّ المشاكل لكي يشعر المواطن اللبناني عموماً، والمسيحي خصوصاً، بالإرتياح، ما يجعله يبقى في بلده رغم كلّ الصعوبات والتحديات التي تواجهه. كما سيتمّ التأكيد على ضرورة العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين كون لبنان بلد «الرسالة»، على ما وصفه البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني، أي رسالة المحبة والسلام والعيش معاً رغم كلّ الإختلافات.
غير أنّ ذلك لا يُمكن أن يحصل من دون تشكيل حكومة حقيقية فاعلة، ولهذا ستتمّ دعوة المسؤولين في لبنان على الإسراع في تشكيل الحكومة لكي تتمكّن دول العالم من مدّ يدّ المساعدة له للخروج من أزمته المستفحلة.
وبعد اللقاء المسكوني المغلق، سيكون هناك «لقاء صلاة» يُعقد بعد ظهر يوم غد الخميس برئاسة البابا فرنسيس، على ما أشارت المصادر الكنسية، في بازيليك القديس بطرس. هذا اللقاء سيكون مفتوحاً أمام الراغبين في المشاركة به، وسيحضره رؤساء الكنائس في لبنان بالطبع ورئيس مجمع الكنائس الشرقية ورئيس المجلس البابوي لتعزيز الوحدة المسيحية، فضلاً عن الديبلوماسيين المعتمدين ومسؤولين يمثّلون لبنان لدى الكرسي الرسولي.