جوهر السُّلطة
جوهر السُّلطة

خاص - Sunday, June 27, 2021 7:00:00 AM

النقيب السابق لمحامي الشمال، الوزير السابق رشيد درباس

غلت القهوة فاستغلى الشاربون ثمن الرشفة وعزَّ الهال فهجرت رائحته، وتعرَّى المزاج من آخر مسكناته.
ازَّاحم القوم على المحطات، وهم يعلمون أنها قد تكون الصفيحة الأخيرة لكيلومترات أخيرة ستصير مادة صالحة لصحيفة ذكريات يكتبها الجدود للحفدة عن عصر الطاقة الذي كان يقصّر المسافات.
تقاتل الناسُ على نزْرٍ من ذلك السائل الزائل المحترق، فيما كانوا يستطيعون أن يستعيضوا عنه باحتراق أعصابهم التي تتأجج من غير وقود.
كانوا في الماضي يصفون الفقير المدْقِع بأنه "يشتهي العضّة بالرّغيف"، فأصبح الرّغيف يعضّ أسنان الآكلين ويلسعهم بنار ثمنه؛ ومنذ زمان طويل تحدث زياد عن الخسَّة التي كانت تلف في جريدة، فأصبحت خبرًا للجريدة فنصح بأكلها سريعًا قبل أن يصبح صحن السَّلَطة موازياً لصحن من ذهب.
كنا إذا اختلفنا على مسألة، سعينا إلى حلّها حبيًّا، فإن تعذّر الصلح ذهبنا إلى القضاء. لكنهم عطّلوا اليومَ دوران آلته، وانتهكوا قوانينه ونظمه، فبات الظلم هاجمًا، والحق واجمًا، والدمع ساجمًا على قضاة فيهم النبيل والرضا والمرتضى والصادر والوارد وفيهم جمال العادل وشجاعة طارق وفصاحة زياد؛ قضاةٌ ينظرون اليوم بعضهم إلى بعض فلا يصدّقون ما يرَوْن من تهتكٍ يقضُّ فيه مرؤوسٌ وقارَ العدالة ولا يقضي إلا بما هو خارج الأصول، وخارج الصلاحية فيما يقضقض الصالح أسنانه "كقضقضة المقرور أرعده البرد" كما يقولُ أبو عُبادةَ البحتريّ، خوفاً من مقام عالٍ يشجع النابي ويجهر بحمايته ويسبغ عليه رعايته، ويُسَوِّغَ له آيته، ويكلله كملاك من السماء هبط الأرضَ، فما أن حطَّ حتى صار نائبة على العباد، وجائحة يجفل أمامها المجفلون، كمن ختم الله على قلوبهم بالشمع الأحمر الذي لا يجد كفَّا شجاعة تفكه.
ليس القضاء جفلة، ولا يُكَذِّبُ أهله بآلاء ربهم؛ وليست المحاماة عطلة تتسكع في باحات الخطى الضائعة، بل هما جهازان فائقا الحساسية حُمَّت الحاجة إلى أدائهما الشجاع المتناسق في هذه الايام العصيبة؛ نصرةً لجرحِ الحقِّ ألّا يندمل، وللقهوة من هجرة فنجانها، وللهال من اضحملال رائحته، وللوقود من التبخر، وللرغيف من التجبّر، وردعاً للظالم عن التكبر، وإقامةً للقِسْطِ لا يطفَّفُ ميزانُه، واستعادة للخَسَّة من خبر في جريدة، إلى صحن السَّلَطة الذي لو أعيد له اعتبارٌ، لاستعادت السلطةُ اعتبارها وتخلَّصَت من العبث بحركات حروفها، لأنها تُهجَّأ بضم السين وتسكين اللام، لا بتحريكهما فتحًا، لأن جوهر حركة السُّلطة هو ضم الناس وتسكين آلامهم، اما الذي يدعي أحقيته بسدّتها، ويحرّض على قلب الطاولات واجتياح القوانين وينصر المروق ويمجده، فإن هو إلا مشروع متسلط وفرخ مستبد، استطاب تجربة الحكم المباشر المتخطي للمؤسسات والقنوات وراح يستنسخ "جماهيرية" جديدة في محاولة فاشلة سلفاً، لأن من مستلزمات تلك الجماهيرية وجودَ نفط حقيقي مختلف عن النفط الموعود في أغوار بحر سلعاتا، ومنها أيضاً، كتاب أخضر ولقب ملك ملوك القبائل، وخيمة بمساحة لبنان، وإبل ونوق، وعمر طويل من الكوميديا السوداء؛ عند ذلك فقط يحق له أن يطارد الشعب اللبناني شارعاً شارعاً وزنقة زنقة....

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني