الاعلامي د. كريستيان أوسّي
كل ما يُحْكَى عن ديمقراطية توافقية يكاد يشبه الدجل السياسي، ذلك أنّ الديمقراطية- لتكون توافقية- يجب أن تكون شاملة، حافظة حقوق كل المتوافقين بل كل المعنيين بها، شرطاً ليوافقوا... فيتوافق الجميع.
فعن أيّ توافقية يتحدثون، وما جرى بعد اتفاق الطائف أطاح بكل مساواة بين المعنيين، بحيث تكاد الامور تخرج عن الاصول المفترضة للتوافق، لتصير أمراً واقعاً يفرض فعلاً جديداً ينسحب على كل مسارات الحياة السياسية والعامة في البلاد.
في دراسة ظهرت حديثاً، تسليطٌ للضوء على واقع الادارة العامة في البلاد، التي كانت، قبل اتفاق الطائف، تكرّس مساواة بين المسلمين والمسيحيين عملاً بقاعدة 6و6 مكرر، فكان هذا المبدأ ينسحب على كل الفئات الوظيفية من الخامسة ارتفاعاً الى الأولى، وكانت كل وظائف الادارة العامة موزّعة بالتساوي بين الطائفتين.
بعد اتفاق الطائف، شهدت الادارة انقلاباً جذرياً، ذلك أنّ المتغيّرات شملت كل الفئات: الخامسة والرابعة والثالثة والثانية. وحدها الفئة الاولى تمّت صيانتها بالمناصفة الطائفية. فمن 150 موقعاً في هذه الفئة، يحتفظ المسيحيون بالنصف، أما الخلل فيظهر تباعاً في كل ما يليها، والارقام خير دليل.
ففي الفئة الثانية هناك 570 موقعاً وظيفياً، انحدر فيها الوجود المسيحي ليقارب 40 في المئة تقريباً، وفي الفئة الثالثة هناك راهناً 4150 موقعاً وظيفياً لا يمثل المسيحيون فيها الا ما نسبته 34%، لتتراجع هذه النسبة أكثر بكثير في الفئات العادية أي الرابعة حيث النسبة 27% والخامسة حيث النسبة تتراوح بين 27 و 28 في المئة .
هذه الدراسة تحذّر من مخاطر المضيّ والاستمرار في هذه التوزيعة التي أحدثت خللاً كبيراً في الادارة، ما أثر سلباً وبشكل جليّ وواضح على المبادئ العامة التي تصون الادارة في أي بلد تعدّدي، وهذه المبادىء هي:
المشاركة والتوازن والكفاءة.
تعرّضت المبادىء الآنفة الذّكر الى ضربة قاسية، بحيث تراجع الحضور الإداري الفاعل في القطاع العام الى أدنى مستوياته وافتقدت الفئات والمواقع الاشخاص الكفوئين الذين كانت كفاءتهم سبباً لدخولهم الادارة حيث أبدعوا وميّزوا الخدمة العامة لأكثر من خمسين سنة، ليصير لبنان مضرب مثل للدول العربية حين كانت إدارته تضمّ أعلاماً وكفاءات وعقولاً...
أما الحال الراهنة اليوم، فتسودها الزبائنية السياسية والمصالح الانتخابية التي أتخمت الادارة بفائض ثقيل أنهك الموازنة وأضاف على الهدر والتسيب الكثير، ما اوقعنا في هذه المحنة الاقتصادية والسياسية الراهنة.
تعتبر الدراسة ان لا مجال لقيام الدولة بشكل صحيح الا من خلال الادارة العامة التي هي الذراع الاساسية للدولة، وهذا يفترض، في حال أراد المعنيون إصلاح الاحوال، تفسير المادة "95" من الدستور بالشكل الذي سيسمح للادارة العامة بالانطلاق مجدداً باتزان وكفاءة ما سيسمح لوحده بسلوك طريق الانقاذ.