شارل جبور
أي مراقب لتطور الأحداث او متابع للمواقف السياسية وردود فعل الناس العفوية، يخرج بانطباع واضح المعالم، من أبرز مؤشراته وجود تقاطع بين بكركي ومعراب والرأي العام المسيحي العريض، حول توجُّه واحد في الانتخابات النيابية المقبلة، وعنوانه التخلُّص من السلطة الحاكمة.
لم يعد الملف الحكومي موضع اهتمام سياسي يُذكر، لأنّ المومنتم الذي كان يفترض ان تتشكّل فيه الحكومة وتقوم بالإصلاحات المطلوبة تجاوزه الزمن، حيث انّ لكل استحقاق توقيته، والتوقيت الحكومي خسر لحظته وحاجته، وأخلى مكانه لتوقيت استحقاق الانتخابات النيابية، الذي تصدّر كل الاهتمامات الداخلية وحتى الخارجية، مع المواقف الدولية التي بدأت تؤكّد على ضرورة إتمام الاستحقاق النيابي في وقته، وبالتالي، حتى لو تشكّلت الحكومة، فإن العدّ التنازلي للانتخابات سيُبقي التركيز والأضواء على الاستحقاق النيابي.
ومع الاهتمام المحلي والخارجي بالانتخابات، يصعب على السلطة تأجيلها في سعيٍ لتمديد استمرارها، ولكن ليس من المستبعد، وفق مصادر ديبلوماسية، صدور قرار دولي على غرار القرار 1559، الذي «دعا إلى إجراء انتخابات رئاسية حرّة في لبنان»، وذلك من أجل ردع أي محاولة للتمديد للبرلمان. وبالتالي، ستعدّ السلطة الحاكمة والمتحكّمة حتى المليون، قبل الإقدام على محاولة التمديد للبرلمان، لأنّ الأوضاع ستتزلزل من تحت أقدامها من الداخل المعبأ، والذي ينتظر هذه اللحظة لتسديد ضربته ضدّ من أوصله إلى حياة الذلّ. ومن الخارج الذي ينتظر هذه السلطة على «الكوع»، بعد ان نكثت بكل وعودها الإصلاحية ورفضت التجاوب مع كل المبادرات الدولية، وتقوم بالمستحيل للبقاء في مواقعها على حساب لبنان وشعبه.
وأما سبب تركُّز الأنظار إلى الانتخابات المقبلة فمردّه إلى ثلاثة أسباب أساسية:
السبب الأوّل، لمعرفة مدى التحوّل الذي أحدثته ثورة 17 تشرين داخل المجتمع اللبناني. فهل كانت ثورة عابرة وانتهت، أم حفرت عميقاً وستترجم غضبها في صناديق الاقتراع؟ وهل خروجها من الشارع يعني خروجها من المعادلة الوطنية، أم انّ الانتخابات ستشكّل المكان الذي ستترجم فيه أفكارها وشعاراتها وأهدافها؟
السبب الثاني، لمعرفة مدى تأثير الانهيار الكبير على مزاج الناس التي خسرت مدخراتها وجنى عمرها وتبدلّت أحوالها ونمط عيشها. فهل ستنتقم في الانتخابات من القوى التي قضت على أحلامها وأدخلتها في المجهول، أم ستنكفئ على جاري عادتها؟ وهل ستفجِّر غضبها في صناديق الاقتراع ضدّ مكونات الأكثرية الحاكمة، أم ستهادنها على حساب مصلحتها ومصلحة البلد؟
السبب الثالث، لمعرفة حجم التراجع في شعبية العهد واستطراداً «التيار الوطني الحر»، وعلى رغم انّ التراجع محسوم، ولكن تبقى نسبته التي يتوقّف عليها دوره في المرحلة المقبلة، والحيثية التي يتكئ عليها لبناء حساباته السلطوية النيابية وفي طليعتها الرئاسية، في ظل فارق أشهر عدة بين الاستحقاقين النيابي والرئاسي.
ومن الواضح، انّ البيئة المسيحية تشهد تعبئة استثنائية مثلثة الأضلع:
الضلع الأول تمثِّله الكنيسة المارونية، مع التركيز المتواصل للبطريرك الماروني بشارة الراعي على قلّة المسؤولية في إدارة الدولة، وتبدية الحسابات الشخصية الضيّقة على الاعتبارات الوطنية العامة وترك الناس جائعة وضائعة، ورفعه للعناوين الوطنية الكبرى التي تبدأ مع الحياد ولا تنتهي بالدعوة إلى مؤتمر دولي.
وبالتوازي مع الراعي، يرفع المطران الياس عودة بدوره الصوت عالياً في وجه السلطة وممارساتها وعدم التفاتها إلى أحوال الناس ومصيرها. وبدأ الرأي العام ينتظر أيام الآحاد للاستماع إلى عظتي الراعي وعودة.
ولا يجب الاستخفاف من تأثير الكنيسة على القواعد المسيحية، خصوصاً انّ الكنيسة تحمل همّ المسيحيين، ويبرز دورها في المفاصل الوطنية الأساسية، وشكّلت تاريخياً الرافعة لتوجّهات وطنية أساسية، والمزاج المسيحي معها، وهي تعبِّر عن هواجسه بدقة، ومن الآن حتى الانتخابات سترفع من منسوب تعبئتها، والتجربة تؤكّد فعالية دور بكركي وتأثيرها، تأسيساً على الدور الذي لعبه البطريرك السابق مار نصرالله بطرس صفير في انتخابات العام 2009 عندما قال: «اذا انتقل الوزن إلى 8 آذار و14 آذار لم يعد لهم وزن، فإنّ هناك أخطاراً سيكون لها وزنها التاريخي على المصير الوطني»، وهذا الموقف كان كفيلاً بترجيح كفة 14 آذار في الانتخابات.
الضلع الثاني تمثِّله «القوات اللبنانية» التي تشكّل رأس حربة المواجهة ضدّ العهد ومن يقف خلفه «حزب الله»، وكل الاستطلاعات تؤكّد تقدّمها على «التيار الوطني الحر» وتحوّلها إلى الرقم الأول مسيحياً والكتلة الأكبر والأولى برلمانياً، في مؤشر ثلاثي الأبعاد:
البعد الأول، انّ الحيثية المسيحية التي يتمترس خلفها النائب جبران باسيل لحجز موقع الرئاسة الأولى سقطت، ولم يعد بإمكانه استخدامها، علماً انّ العقوبات تشكّل حاجزاً جدّيا أمام طموحه الرئاسي، فضلاً عن انّ خصوماته السياسية المفتوحة مع الجميع تحول دون تحقيقه هذا الهدف.
البعد الثاني، انّ المزاج المسيحي تبدّل من تأييد سياسات «التيار الحر» إلى معارضة هذه السياسات، وأهمية هذا التبدُّل ليست تقنية او عددية مرتبطة بعدد النواب فقط، إنما تأثيرها من طبيعة وطنية بتقدُّم الفريق السيادي على حساب الفريق الذي يغطي سلاح «حزب الله»، كما انتقال الأكثرية النيابية من ضفة إلى أخرى، ما يعني انّ تراجع الحالة العونية وتقدُّم الحالة القواتية يؤديان إلى إضعاف التيار والحزب في آن معاً.
البعد الثالث، انّ تقدُّم «القوات اللبنانية» يؤدي إلى تحسين شروط مواجهتها مع «التيار الحر» مسيحياً ومع «حزب الله وطنياً، وبالتالي يؤدي استطراداً إلى إعادة خلط الأوراق المحلية وبداية مرحلة سياسية جديدة وفصل جديد من المواجهة، وفق موازين قوى داخلية مختلفة.
الضلع الثالث، يمثِّله الرأي العام المسيحي الذي لم يكن يتعاطى العمل السياسي المباشر، ويتراوح تموضعه بين عدم الاكتراث للشأن العام، وبين تأييد الحالة العونية، الأمر الذي بدأ يتغيّر منذ توقيع وثيقة التفاهم مع «حزب الله»، وتُوِّج في انتفاضة 17 تشرين، فتحوّل من حالة داعمة للتيار، إلى حالة رافضة كلياً بقاء هذا الفريق في السلطة، بعدما كشفته السلطة على حقيقته. كما انّه قرّر الانخراط في الشأن العام، بعدما لَمَسَ لَمْسْ اليد انّ انسحابه انعكس على وضعيته الذاتية ونمط عيشه وحياته، ولم يعد باستطاعته أن ينأى بنفسه عن السياسة، كون الأمور مترابطة في حلقة واحدة، وتحسين أوضاعه يتطلّب تحسين أوضاع البلاد السياسية، ولذلك، سيشارك في الانتخابات النيابية بكثافة لمحاسبة العهد وحليفه الحزب من جهة، ويفوِّض الفريق القادر على تحسين أوضاعه وأوضاع البلاد.
فقد لا يكون هناك من تنسيق مباشر بعد بين بكركي ومعراب والرأي العام، خصوصاً انّ الكنيسة تفضِّل غالباً الاكتفاء بالموقف المبدئي من دون الآليات العملية، ولكن الأساس، انّ هذه المكونات الثلاثة تحمل الأهداف نفسها، والتصميم نفسه، والتوجّه المشترك، للإطاحة بالمنظومة القائمة، وبالتالي يمكن الكلام عن تحوّل كبير داخل البيئة المسيحية وفريد من نوعه، سيُفضي إلى قلب الطاولة في الانتخابات، والتأسيس لمرحلة سياسية جديدة.
ومعلوم انّه، متى اجتمعت والتقت وتقاطعت على الأفكار الإنقاذية نفسها، الكنيسة زائد «القوات» زائد الرأي العام، يعني انّ التغيير آتٍ ليس فقط مسيحياً، إنما وطنياً أيضاً.