كتب السياسي اللبناني دافيد عيسى:
لبنان لا يواجه خطر الانهيار. انه في عز الانهيار وفي خطر شديد. لبنان في قلب العاصفة التي ضربت كل شيء ودمرت الكيان والدولة والمجتمع والانسان. إنها بالتأكيد من أقسى وأسوأ الأزمات التي يمكن ان يشهدها ويعيشها بلد في التاريخ. والأدهى في كل ما يحصل أنه لا يمكن تحديد الجهة المسؤولة ولا توجيه الاتهام في أي اتجاه وضد مسؤول محدد.
لا يمكن أو لا يكفي القول ان المجلس النيابي مقصر في عمله التشريعي والرقابي وأن رئيس المجلس مسؤول عما وصلنا اليه. ولا يمكن تحميل رئيس حكومة تصريف الاعمال مسؤولية أوضاع وملفات ورثها وكرة نار قُذفت اليه. ولا يتحمل رئيس الحكومة المكلف لوحده مسؤولية الفراغ الحكومي وما أصاب تشكيل الحكومة من تعثر وتأخر... ولا يمكن تحميل حاكم مصرف لبنان مسؤولية أزمة اقتصادية مالية متشعبة وناجمة عن سياسات السلطة السياسية وأخطائها. وبالتأكيد لا يمكن حصر الاتهامات ضد الأحزاب في حزب واحد ولا تحميل رئاسة الجمهورية دون غيرها مسؤولية الازمة الشاملة التي تتراكم وتتكدس منذ سنوات.
انها مسؤولية جماعية في نظام طائفي مبني على توزيع الحصص والمكاسب والمغانم وبالأحرى ان يكون مبنياً ايضاً على توزيع المسؤوليات، وان تكون الأزمة الكبرى الراهنة مسؤولية مشتركة لكل الذين يشاركون في السلطة حالياً وأيضاً الذين تعاقبوا عليها من قبل.
في هذا النظام وبسبب هذه "التركيبة" التي يقوم عليها، لا يمكن ان نحدد المسؤولية وأن نسمي أحداً أو واحداً ولا يمكن ان نرى موقوفاً ومداناً في قضية فساد من أي نوع وحجم، ولا يمكن ان نصل الى نتيجة في أي ملف حتى لو كان مثبتاً وموثقاً بالوقائع والأرقام... وعليه لم يعد مجدياً البحث في الأسباب والسعي الى تحديد المسؤوليات وإنما يصبح مجدياً التعامل مع النتائج والمضي قدماً في إصلاحات جذرية تقطع دابر الفساد من أعلى الهرم الى اسفله وتضع حداً فاصلاً بين ماضٍ قاتم ومستقبل مشرق وتطلق عملية إعادة بناء الدولة على أسس عصرية حديثة.
ما يستوقفني في الحرب الوهمية المعلنة على الفساد، وفي الازمة المستشرية التي فتكت بالدولة أن الضجة والاتهامات والضغوط تكاد ان تكون محصورة بمواقع ومؤسسات يرأسها ويقودها مسيحيون – ونأسف لهذا الكلام ولكنه واقع على الارض طالما النظام المعتمد طائفياً – فهل هي مصادفة أم مفارقة ان نرى الهجمات تشن على مجلس القضاء الأعلى ورئيسه، والجيش اللبناني وقائده، ومصرف لبنان وحاكمه، وان يترافق ذلك مع تصدع قطاعات حيوية كانت في أساس تميز لبنان وتفوقه في المنطقة: المصارف، المستشفيات، السياحة، التعليم... إلخ، وكلها قطاعات نمت ونهضت بشكل أساسي على يد النخب المسيحية وبشراكة وتفاعل مع النخب الإسلامية...
وما يلفتني في خضم حالة الخيبة والإحباط المبررة والمشروعة بعد كل الذي حدث، ان الساحة المسيحية غارقة في مشاهد الندب واللطم والبكاء على الاطلال والتحسر على ما كان ولن يعود. ويبالغ كثيرون من المسيحيين في لوم قادتهم وأحزابهم وممثليهم في الحكم وتحميلهم كل مسؤولية الازمة وإلصاق أقذع النعوت بهم مع إغفال الأحزاب الأخرى والاستنكاف عن اتهامها ومهاجمتها. هذا لا يعني ان السياسيين والمسؤولين المسيحيين "براء" مما يحصل ولا يتحملون مسؤولية ولم يرتكبوا أخطاء، ولكن لا يعني ايضاً انهم المسؤولون قبل غيرهم وأكثر من غيرهم.
على المسيحيين ان يكفوا عن جلد الذات وان يكفوا عن تيئيس أنفسهم وتدمير ثقتهم بأنفسهم. وعليهم ايضاً ان لا يكفوا عن البحث عن حلول والسعي اليها وان لا يكفوا عن التفاؤل بالمستقبل استناداً الى تاريخ بلدهم وحضارته ورسالته ومعاناته وتجاربه الكثيرة المريرة.
واذا كان المسيحيون لا يرون في المدى المنظور حلاً للأزمة التي صارت أكبر من الجميع، فعليهم على الأقل إيجاد طريقة لإدارة هذه الازمة الاستثنائية بأقل الخسائر الممكنة والتكاليف وبأفضل الوسائل الممكنة لمنع هجرة ما تبقى من مسيحيين في هذا الوطن.
على المسيحيين بادئ ذي بدء ان يوحدوا صفوفهم وكلمتهم في مواجهة أزمة تضعهم كلهم على نفس المستوى من التهديد والخطر. فإذا كانت أزمة بهذا الحجم وهذه الخطورة لن تغير في مسارهم وعقليتهم ولن تحسّن في أدائهم وممارستهم ولن تُصلح ما افسدته الصراعات والأطماع... عليهم وعلى الدنيا السلام.
ما يدعو الى الاستغراب ان يكون "الثنائي الشيعي" واحداً في التطلعات والتوجهات وان يكون "السّنة" متأهبين دوماً للالتفاف حول موقع رئاسة الحكومة متناسين خلافاتهم الى درجة ان الرئيس سعد الحريري لم يجد حرجاً في زيارة رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب والتضامن معه عندما دعت الحاجة. وان يكون الدروز متحلقين حول زعيمهم وليد جنبلاط ظالماً كان أم مظلوماً، على خطأ أم على صواب. أما المسيحيون فإنهم غارقون في خلافاتهم يتقاتلون على ظهر سفينة تغرق ويختلفون على تقاسم بيت أضحى هيكلاً فارغاً ويُمعنون في لغة الحقد والشتائم وفي سياسة الكيدية والقطيعة... وكأن كل ما جرى ليس كافياً لإيقاظهم من سباتهم وغفلتهم وردهم الى جادة الصواب بدءاً من علاقاتهم وكيفية التعاطي فيما بينهم قبل ان نصل الى خياراتهم وكيفية التوفيق فيما بينها.
ولتكن البداية في الاتفاق على مسألة بسيطة هي الفصل في الخلافات "التكتيكية" العابرة من جهة، والمواقف الثابتة الاستراتيجية من جهة ثانية...
إختلفوا ما شئتم في وجهات النظر وأساليب التعبير وتساجلوا بطريقة حضارية تحترم رأي الآخر، ولكن إتفقوا على الأساسيات والثوابت والمبادئ وعلى كل ما يمت الى المصلحة المسيحية اللبنانية العليا بصلة، وكل ما له انعكاس وتأثير على الدور والرسالة والوجود والمستقبل.
فلا مشكلة أبداً في التنوع والاختلاف. إن في التنوع غنى وحيوية وعافية ولكن تحت سقف استراتيجي واحد. إن في الاتحاد قوة.
المصدر: موقع السياسة