رضوان مرتضى
لم يكن العميل جعفر غضبوني الوحيد الذي يتركه القضاء العسكري حرّاً. وإن كان لهذا العميل حامٍ أميركي يأمُر فيُجيبه القضاء العسكري بالسمع والطاعة، فلمفوِّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالإنابة فادي عقيقي باعٌ طويل في التهاون مع المشتبه فيهم بالتواصل والتعامل مع العدو الإسرائيلي. سلسلة ملفات لموقوفين تواصلوا مع إسرائيليين ودخلوا أراضي العدو عُرِضت على النيابة العامة العسكرية، لكن عقيقي وسلفه بيتر جرمانوس لم يتّخذا أي أجراء بحق أي منهم، سوى الاستعجال بالترك ومنع التوقيف!
العميل جعفر غضبوني، رقيب في سلاح مشاة العدو الإسرائيلي. ابن بلدة الناقورة الذي خدَم في صفوف جيش العدو لنحو عشر سنوات، أوقفه الأمن العام في مطار بيروت في السادس من حزيران الجاري، لورود اسمه على البرقية 303 (برقية تصدر عن الجيش لمتابعة العملاء). إلا أنّ قلب مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالإنابة القاضي فادي عقيقي رقّ لحال العميل الذي يحمل الجنسية الأميركية، ومن دون أن يعبأ بأنّ غضبوني هذا نكّل بأبناء الجنوب أثناء عمله في جهاز الاستخبارات التابع لعصابات العميل أنطوان لحد. ويبدو أن عقيقي لم يتّعظ من تجربة رئيس المحكمة العسكرية السابق، العميد حسين عبد الله، الذي ترك جلاد الخيام عامر الفاخوري، وباستخفافٍ قلّ نظيره، قرر السماح للعميل بالخروج لقضاء عطلة نهاية الأسبوع وسط عائلته، على أن يحضر اليوم الإثنين ليستمع إليه. اكتفى عقيقي بحجز جواز سفر غضبوني اللبناني، تاركاً معه جواز سفره الأميركي، علماً بأنّ غضبوني غادر تل أبيب عام ١٩٩٥ إلى كندا ومنها إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث استقرّ فيها.
خطوة عقيقي هذه لم تكن وليدة اللحظة، بل تُعبّر عن نهجٍ بات سائداً في القضاء العسكري، إذ إنّ المدعي العام العسكري، الذي ارتكب فضيحة منذ أسابيع بإطلاقه سراح مشتبهٍ فيه تطوّع للعمل مع الموساد الإسرائيلي، لم يُحاسبه أحد. يومها سارع القضاء العسكري إلى إصلاح الخطيئة بمخالفة قانونية لإعادة توقيف المشتبه فيه مارك ط. الذي لحسن حظ عقيقي وقاضي التحقيق لم يتمكن من التواري عن الأنظار طويلاً. غير أنّ لعقيقي مآثر مشابهة. فقد سبق قبل أسابيع أن رفض توقيف اللبناني ألكسندر ف. (مواليد ١٩٨٨)، علماً بأنّ المشتبه فيه المشهور بـ"Alex" يعمل في المجال نفسه الذي يعمل فيه المشتبه فيه مارك، بوصفه مدرب فنون قتالية وأسلحة وحماية شخصيات، ويدرّب جنوداً وضباطاً في الجيش اللبناني. وقد تبين أنّ للمشتبه فيه تواصلاً مع حسابات مشبوهة على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنه ذكر أنّه حذفها بعدما تبين له أنّها تابعة للعدو الإسرائيلي، علماً بأنّ بينها حساب اسمه Mossad Sayaret.
كذلك نشر اللبناني حسين ن. (مواليد ١٩٨٨)، صوراً وتعليقات تدعو إلى التطبيع مع العدو الإسرائيلي. فقد وضع على حسابه على تويتر صورة للعلم اللبناني مضاءً على أحد الأبنية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مذيّلاً الصورة بعبارة: "بل نُريدها، نُريد السلام، وتباً لأفكاركم الإيرانية". أوقف في الثامن من كانون الأول عام ٢٠٢٠ ليعترف بأنّه نشرها لكونه يؤيد "السلام مع إسرائيل من خلال اتفاقية تُبرم من جانب الدولة اللبنانية فقط لا غير". لم يتم توقيف حسين ولو ليومٍ واحد. فقد أشار مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالإنابة، فادي عقيقي، بتركه لقاء سند إقامة، وأخذ تعهّد منه بعدم نشر أي صور أو مقالات تدعو إلى التطبيع مع العدو.
لم يكن حسين الوحيد الذي يرفض مفوّض الحكومة توقيفه في ملفات كهذه تتعلّق بالدعوة إلى التطبيع مع «إسرائيل». فقد سبق أن أشار بترك اللبناني مازن ر. (مواليد ١٩٧٩) الذي كان يضع "إعجابات" على منشورات الناطق باسم جيش العدو أفيخاي أدرعي. كذلك كان يُبدي إعجابه بمنشورات صفحة «أصدقاء إسرائيل» التي تنشط في مجال لمّ شمل "أصدقاء إسرائيل" في العالم العربي والتواصل معهم للتنسيق والعيش معاً «بعيداً عن الخلافات والحرب». وذكر مازن الذي استُدعي للتحقيق في ١٥ كانون الأول ٢٠٢٠ أنّه يُتابع أخبار الجالية الدرزية المقيمة داخل أراضي العدو بهدف معرفة طبيعة تأقلمهم في العيش مع الصهاينة، علماً بأنّ المحققين وجدوا على صفحته أنّه سبق أن أعاد نشر منشور لمجندة إسرائيلية ولضابط في جيش العدو. وذكر أنّ شخصين إسرائيليين تواصلا معه عبر برنامج للمحادثات، لكنه لم يُجب بسبب عدم معرفته باللغة العبرية، وخشية كشف الأجهزة الأمنية أمره. مجدداً قرر القاضي عقيقي تركه لقاء سند إقامة، بعد تعهده بعدم التكرار.
في آذار من العام الحالي، أوقف الأمن العام اللبناني سمير ض. (١٩٧٢) الذي يحمل الجنسيتين الفرنسية والكندية، بعدما تبيّن أنّ لديه تواصلاً مع شخصيات إسرائيلية كندية تابعة لمنظمة صهيونية. وتبين أيضاً وجود اتصالات بينه وبين أرقام تُستخدم من قبل استخبارات العدو الإسرائيلي. ولدى التحقيق معه، ذكر أنّه كان يعمل مزيّناً نسائياً في كندا حيث تعرف إلى شخصيات من أصول إسرائيلية. وأبلغ المحققين أنّه بقي على تواصل معهم، معدّداً بضعة أسماء لشخصيات إسرائيلية. خابر المحققون مفوّض الحكومة عقيقي، ليشير بتركه بسند إقامة بعد التعهّد بعدم التكرار.
القصة نفسها تكررت مع القاضي عقيقي. فقد رصد الأمن العام تواصلاً بين اللبنانية لينا ط. (مواليد ١٩٧٨) والإسرائيلي Stef Israel والإسرائيلي البلجيكي Stef Las. ولدى متابعة صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، تبيّن أنّ ضمن لائحة أصدقائها أيضاً الإسرائيلي Eli Elic Cohen الذي يتفاعل مع منشوراتها. في 12 نيسان 2021، استُدعيت إلى التحقيق، لتعترف بأنّها تتواصل مع "صديق" لها يقيم في تل أبيب، تعرّفت إليه في بلجيكا قبل عشر سنوات، حيث كان يعمل في تجارة الألماس. واعترفت بأنّها ترددت إلى تل أبيب ثلاث مرات لزيارة صديقها وحضور حفل زفاف. المفاجأة أنّه لدى مراجعة المحققين لعقيقي، أشار بتركها بعد تعهّدها خطياً بعدم التواصل مع إسرائيليين وعدم التردد إلى أراضي العدو.
قبل عقيقي، كان القاضي بيتر جرمانوس يعتمد النهج نفسه. فقد بيّنت استقصاءات الأمن العام أنّ ليلى ي. (مواليد ١٩٩٤) على علاقة غرامية بشخص إسرائيلي يُدعى Or Bashar تُريد الزواج منه ومعرفة كيفية الذهاب إلى الأراضي المحتلة. عرض عليها أحد الأشخاص السفر إلى دولة أوروبية ومنها إلى "إسرائيل". استُدعيت إلى التحقيق بتاريخ ٥ شباط ٢٠١٩، لتُقرّ بأنّها تنشط على صفحة Lebanese jewish community council وتواصلت مع العديد من الأشخاص عبرها للسؤال عن طريقة للسفر إلى "إسرائيل" للزواج من حبيبها الإسرائيلي الذي أقنعها بوجوب اعتناق الديانة اليهودية. وتبيّن أنّ لديها صديقين إسرائيليين على صفحتها على فيسبوك هما Itzik Dror وزوجته Eti Avani اللذين تبادلت معهما الأحاديث بشأن الإقامة والعيش في فلسطين المحتلة. راجع ضباط الأمن العام مفوّض الحكومة آنذاك بيتر جرمانوس الذي أشار بترك صاحبة العلاقة بسند إقامة وأخذ تعهّد خطي منها بعدم التواصل مع أشخاص داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة أو مع إسرائيليين.
تساهل جرمانوس مع ليلى باسم الحب، لكنها لم تكن الوحيدة. فقد قرر جرمانوس ترك اللبناني سميح ق. (مواليد ١٩٩٤) الذي كتب على حسابه على"تويتر" تغريدة دعا فيها إلى التطبيع مع العدو الإسرائيلي وعقد معاهدة سلام معه وشراء السلاح منه قبل أن يحذفها إثر الانتقادات الكبيرة التي تلقّاها من الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي. أوقف بتاريخ ٧ نيسان ٢٠٢٠ ليُؤكد أنّه كتب العديد من التغريدات المتعلقة بإسرائيل انطلاقاً من اقتناعاته السياسية، معتبراً أنّه يُريد شراء السلاح من "إسرائيل" أسوة بما فعلته أحزاب لبنانية خلال تعاملها العسكري مع العدو. لم يوافق جرمانوس على استمرار توقيفه، بل أشار بتركه فوراً بعد أخذ تعهّد منه بعدم تكرار كتابة تغريدات متعلقة بالكيان الإسرائيلي.
لجرمانوس باعٌ طويل في هذا المجال. فقد سبق أن راجعه الأمن العام بشأن الفلسطيني الألماني حاتم ذ. (مواليد ١٩٧٢)، اللاجئ في لبنان، والذي نشر صوراً له أمام المسجد الأقصى، ليتبيّن خلال التحقيق معه في آب ٢٠١٩ أنّه سافر برفقة صديقه عبر مطار دوسلدورف الألماني إلى الأردن، ومن هناك توجها إلى الحدود الفلسطينية ليعبراها نحو القدس، حيث زارا الأماكن المقدسة ثم توجه إلى مسقط رأسه صفد. يومها أشار جرمانوس بتركه بسند إقامة وختم المحضر.
مشكلة النيابة العامة العسكرية، والمحكمة العسكرية، ومحكمة التمييز العسكرية، ليست محصورة في التساهل مع التواصل الذي يُصنّفه القضاة بأنه «غير أمني» مع العدو، بل يتعداه إلى التساهل مع من يتطوّع للعمل مع استخبارات العدوّ، وصولاً إلى البحث عن أي ذريعة للتساهل مع عملاء موقوفين ومحكومين، كما مع أولئك الذين فروا من لبنان عام 2000، كالفاخوري وغضبوني. الرسالة التي يوجّهها القضاء العسكري مفادها أن لبنان أرض صالحة للتطبيع مع العملاء.
إخبار لمنع سفر العميل غضبوني
تستعدّ هيئة ممثلي الأسرى والمحررين للتقدم بإخبار أمام المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات لتوقيف العميل جعفر غضبوني، طالبين منع سفره المقرر الثلاثاء عبر مطار بيروت الدولي. وعلمت "الأخبار" أنّ ممثلي الهيئة سيتقدمون بإخبار ثانٍ أمام القضاء العسكري ضد غضبوني. كما دعت هيئة ممثلي الأسرى والمحررين إلى اعتصام أمام مبنى المحكمة العسكرية، عند الساعة العاشرة والنصف من صباح اليوم، للمطالبة بمنع سفر العميل غضبوني من لبنان، وبإخضاعه للمحاكمة، ورفضاً لعودة أي عميل إلى لبنان من دون عقاب.