نبيل هيثم
وكأنّ التاريخ يعيد نفسه... خلال الجلسة الشهيرة التي عقدها مجلس النواب بعد موقعة 13 نيسان 1975 السيئة الذكر، تلا رئيس الحكومة آنذاك رشيد الصلح بيان الاستقالة، وتضمن توصيفًا دقيقًا لفشل صيغة النظام اللبناني آنذاك. يومها، نقل من حضروا تلك الجلسة، أنّ رشيد كرامي ألقى بالقلم الذي كان يمسك به على الطاولة وقال: "انتهى الأمر، لم يعد هناك امكانية لتشكيل حكومة في لبنان".
من المؤكّد أنّ ثمة من ردّد كلمات رشيد كرامي بعد الجلسة الأخيرة التي عقدها مجلس النواب لمناقشة رسالة رئيس الجمهورية، أقلّه بعدما كشفت كلمة الرئيس سعد الحريري عن حجم الهوة الهائلة بينه وبين الرئيس ميشال عون، على النحو الذي يجعل أي تسوية تقارب بتوقعات الصعوبة إن لم يكن الاستحالة.
بهذا المعنى، لم يكن مفاجئاً أن تُقابل مبادرة الرئيس نبيه بري بهذا القدر من التشاؤم، الذي لم تبدّده الأجواء الإيجابية التي خرجت من لقائه بالرئيس الحريري في عين التينة، وهو تشاؤم سرعان ما انتقل من مجرّد شعور إلى مستوى اليقين، بعد اللقاء الذي عقده الخليلان مع رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، والذي أظهر مجدداً انّ التعطيل بات سمة المرحلة.
ربّ قائل إنّ ظروف العام 1975 مختلفة عمّا نشهده اليوم. في تلك الفترة كان صاعق التفجير قد انفجر بالفعل بعد حادثة بوسطة عين الرمانة، وقبلها اغتيال معروف سعد، وهما تطوّران كرّسا حقيقة أنّ صيغة النظام اللبناني قد انتهت… لكنّ اليوم هو أشبه بالأمس من الناحية الواقعية، فالحرب اليوم ليست بالحديد والنار، وإنما بالاقتصاد، الذي لا يجادل اثنان في أنّه المحرّك الأساسي للسياسة وليس العكس.
يكفي النظر سريعاً إلى مضمون التقرير الأخير للبنك الدولي لإدراك أننا بتنا بالفعل امام حقيقة أنّ الاقتصاد قد أنهى بالفعل صيغة النظام الحالي، أو على الأقل جعلها في حالة موت سريري، يجهد ما تبقّى من عقلاء في هذا البلد للخروج منها، بصدمات كهربائية من شأنها أن تؤمّن الفرصة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة، وهو تماماً ما ينطبق على المبادرة الإنقاذية التي طرحها الرئيس نبيه بري.
لبنان غارق في انهيار اقتصادي، قد يضعه ضمن أسوأ عشر أزمات عالمية منذ منتصف القرن التاسع عشر، في غياب لأي أفق حل يُخرجه من واقع متردٍ يفاقمه شلل سياسي. هذا ما خلص إليه التقرير، الذي توقع أن ينكمش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي في لبنان، الذي يعاني من «كساد اقتصادي حاد ومزمن»، بنسبة 9.5 في المئة في العام 2021.
خلاصة تقرير البنك الدولي، أنّه "في مواجهة هذه التحدّيات الهائلة، يهدّد التقاعس المستمر في تنفيذ السياسات الانقاذية، في غياب سلطة تنفيذية تقوم بوظائفها كاملة، الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية أصلاً والسلام الاجتماعي الهش؛ ولا تلوح في الأفق أي نقطة تحوّل واضحة".
هكذا يُضاف جرس إنذار جديد إلى الأجراس التي قُرعت منذ سنتين، والتي رفعت مخاطر الأزمة التي يشهدها لبنان إلى مصاف الأزمات الوجودية. ومع ذلك، من السذاجة الاعتقاد أنّ تحذيرات على هذا القدر من الخطورة ستسهم في أن يتنازل المعطّلون قيد أنملة عن تعنتهم، طالما أنّ لبنان بات تفصيلاً بالنسبة إليهم، حين يتعلق الأمر بطموحاتهم المدمّرة.
هو انتحار سياسي يريده المهووسون بالسلطة انتحاراً جماعياً للبنانيين، وهذا ما يتبدّى بأفضح أشكاله في الاستجابة السلبية لكل المبادرات المطروحة للخروج من عنق الزجاجة، وذلك عبر طرح مطالب سوريالية، الهدف منها إجهاض أية محاولة لتشكيل الحكومة، تحت مسمّيات مختلفة، من بينها الثلث المعطّل وتسمية الوزراء المسيحيين… إلى آخر تلك المصطلحات الكارثية التي دخلت القاموس السياسي اللبناني في العهد العوني.
ضمن هذه السردية المملة، تقارب مبادرة الفرصة الأخيرة قبل أن يذهب لبنان، أو بالأصح قبل أن يؤخذ نحو السيناريوهات الأكثر خطورة، التي باتت كلها تدور تحت عنوان واحد: لحظة الارتطام الكبير.
تلك اللحظة تقترب أكثر فأكثر، فيما يصرّ المعطلون على المضي قدماً في المناورة الهدّامة. هذا ما تبدّى بالأمس، حين سعى جبران باسيل، ومن خلفه الرئيس ميشال عون، كعادتهما للهروب إلى الأمام عبر الإيحاء بالموافقة على صيغة الثمانيات الثلاث، وتوزيع الحقائب الوزارية، وفي الوقت ذاته وضع العقدة في المنشار، من خلال رفض مطلب سعد الحريري بتسمية وزراء مسيحيين، ما يعكس كيدية سياسية واضحة لدى الفريق البرتقالي، يبدو الهدف منها إحراج الحريري لإخراجه، من خلال العزف على أكثر الأوتار حساسية في النظام الطائفي اللبناني، والمتصلة بصلاحيات رئيس الحكومة.
ما سبق يكشف عن أخطر أوجه اللعبة السياسية التي يغامر بها الفريق البرتقالي بشؤون البلاد والعباد، ويصح وصفها بأنّها "حرب إلغاء" جديدة، تستهدف تحقيق هدف من اثنين:
- إما إجبار الحريري على التنازل عن آخر ما يحفظ ماء وجهه في شارعه السنّي.
- وإما إجباره على الاعتذار ومن ثم الاستقالة الجماعية لتيار "المستقبل" من مجلس النواب، ليتكرّس بذلك سيناريو الفراغ، الذي يبدو أنّ العهد يريد من خلاله القيام بتطبيق حرفي لمبدأ "الفوضى غير البنّاءة"!
هذا النهج لا يمكن وضعه إلّا في سياق محاولة للانقلاب على الطائف، بكل ما تحمله هذه المغامرة من نتائج مدمّرة، قد تشعل برميل البارود في بلد محتقن سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ففي كلا السيناريوهين المشار اليهما سابقاً، سيكون لبنان أمام سابقة خطيرة، لا شك أنّها ستحمل في طياتها العوامل الموضوعية لإنهاء الصيغة الحاكمة للنظام اللبناني.
هي مغامرة متجددة، يحاول مبتدعوها، وبمقاربة مفرطة في العبثية، تكرار مغامرات عرفها تاريخ لبنان القديم والمعاصر، ولم يعد اثنان يختلفان على حقيقة أنّها حملت بذور الخراب الذي بات اللبنانيون يستشرفونه في كل تفاصيل حياتهم.