عودة إلى زياد الرحباني
عودة إلى زياد الرحباني

خاص - Sunday, May 30, 2021 7:00:00 AM

النقيب السابق لمحامي الشمال الوزير السابق رشيد درباس

حلكت نهاراتنا وامتلأت ليالينا بالكوابيس، وانسدّت الآفاق في الشاشات والإعلام، إذ نادراً ما تبزغ بارقة فنية من بين الركام، كأنما كتب علينا أن نتجاهل أوضاعنا بالتسلية في متابعة المحاكمات التلفزيونية عن الفساد وتلبّس المذيعين أدوار المحققين والقضاة والجلادين معاً، وكذلك المسلسلات التركية أو اللبنانية اللاوقعية، عن حروب العصابات، ومافيات التسلط، بينما تقوم العصابات والمافيات المتزينة بثياب المسؤولين في تدمير ما تبقى من هذه الدولة.


فجأة وجدتني أعود إلى زياد الرحباني الذي اختفى تماماً منذ فترة طويلة، ليس لنضوب في القريحة أو عجز عن الإبداع، على ما أظن، وإنما لأنه قال لنا منذ العام 1975 وعلى مدى سنوات معدودة ما أرته إياه بصيرته الفنية وقدرته الخارقة على استكشاف الأحداث قبل وقوعها بعشرات السنوات، بحيث تقف خلفه زرقاء اليمامة بمسافة بعيدة، تعلن عن تقصير عينيها، عن مشاهدة ما شاهد.


منذ "نزل السرور" الذي ما زال صالحاً لإستضافة أجيال وأجيال، مروراً بالـ "فيلم أميركي طويل" الذي توقف عن العرض بعد ما أدى مهمته في إلهائنا عما يجري حولنا، إلى "بالنسبة لبكرا شو" حيث شرح لنا باستفاضة وتفصيل من خلال حديثه مع زوجته ثريا دور الحلف الأطلسي في شراء صالون منزلهما، وكذلك البرنامج الإذاعي "العقل زينة" الذي كان يدخل إلى أعماق العقول من مخارج القهقهات، ومسارب الابتسامات، أورثنا زياد قاموساً موسوعياً، ودائرة معارف واستطلاع قطعت أرزاق البصارات والبراجات، ورمت بثقافة وشوشة الودع إلى سلة النسيان؛ وهل ننسى حديثه القديم عن تقلبات سعر صرف الدولار، وقد كدنا ان نختنق ضحكاً رغم مرارة طعم العملة الوطنية وحرارة لسعها للأنامل.


في إحدى مقابلاته لتلفزيون المستقبل -ذكره الله بالخير- نفى عنه صفات المثقف الكبير والمنظر الخطير، وكاد يدعي الجهالة، إذ قال لمضيفه ما نصّه: أنا أقطِفُ ما يقوله الناس وأعيد صياغته، انا لست سوى آلة تسجيل.. ثمّ استدرك: بس آلة عن آلة بتفرق. أعادني قوله إلى سيّد درويش، مثله الأعلى، الذي كان يقبس ألحانه من إيقاع الشوارع، بل كان يلاحق السقايين الذين تنوء ظهورهم بِقَربِ الماء، ليستلهم منهم لحن الأغنية، ويعاشر الجرسونية الذين يشكون قلة البقشيش، وينادم التحفجية أي الحشاشين ليستخرج من تلك المنادمة أجمل الموسيقى التي ما زال الفن العربي يعيش على فتاتها. وأعادني أيضاً إلى "كلود مونيه" الرسام الانطباعي الفرنسي العظيم: حين فسَّر إبداعه بالقول: ce n'est qu'un oeil .. ثم أردف قائلاً: mais quel oeil.. وتعريب هذا : إنها عين.. ولكن أي عين؟


وفي هذا المجال نتذكر قول المتنبي:
ذكي تظنّيه طليعة عينه
يرى قلبه في يومه.. ما ترى غدا
وأشير أيضاً الى قول أرسطو: الفن هو إدخال السرور إلى قلوب الناس: ولقد أدخل زياد السرور إلى قلوبنا، من غير أن يتخلى عن مِسَلَّة نعَّارة ظل يهمزنا بها حتى ننتبه فلم ننتبه.
ويقول صديقي الشاعر عبد الكريم شنينه إن لم يكن الفن كشفاً، فهو استنساخ منوّع لما سبق... وهذا ما دعاني لكتابة هذا الناقوس مستعيداً ما أبدعه هذا الفنان في الثمانينيات متوقعاً بحسه السابر للقادم من السنوات أحداثها، فيقول:
يا الله
بدو ينقطع البنزين بهاليومين
مش رح ينقطعو الاجرين
يمكن رح تنقطع المي بهاليومين
منرجع منعبي من العين
بدو ينقطع البراد بهاليومين
منسقع بين النهرين
رح ينقطع الأمل الباقي بهاليومين
مننطر لسنة الألفين
يا الله
يمكن رح ينقطع الخبز بهاليومين
بصل ويخنة ع يومين
يمكن رح ينقطع النيدو بهاليومين
إمك في عندها بزين
يبدو رح ينقطع المتحف بهاليومين
القصقص سالك ع خطين
رح ينقطع النفس الباقي بهاليومين
منبقى منتنفس بعدين
شي عجيب كيف ماشي
مخشخش من دون خشخاشة
ولشو أهبل ولشو غاشي
والفيلم مكفى وفاهمينوا وشايفينوا من دون شاشة..


وإذا كان زياد قد أرجانا في الماضي لعودة الأمل الباقي، إلى سنة الألفين، فإنه أرجأ عودة الأنفاس لبعدين، فهل تكون هذه البعدين شهرين أم سنتين أم قرنين، وإذا كان ذلك كذلك فمن يروض ذلك "الثور الهائج" حتى ذلك الحين، خاصة وأنه بشرنا قبل ظهور المشاغب بزمن طويل، فقال:


شايفو عالنظام مش رح يمشي
غيّرلو النظام


عظمة الأخوين رحباني وفيروز تكمن في تمرّدهم، فجاءهم من صلبهم من يتمرّد على التمرّد، ويتنصل من الاستفادة من اسم العائلة العالي المقام ليسجّل في صفحات الفن اسمه الخاص زياد، دون أن تفوتني الإشارة إلى أنه أعظم المضحكين العرب لأنه لا يبذل أي جهد لإضحاكنا.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني