راكيل عتيّق
يأتي إصرار الفرنسيين على معالجة الوضع في لبنان ومنع انهياره، ليس فقط انطلاقاً من اهتمام باريس بلبنان، ومن العلاقات التي تربط الدولتين تاريخياً، بل لمصالح فرنسية عدة، من الخوف من أعداد اللاجئين من لبنانيين وسوريين وفلسطينيين الذين سيغزون أوروبا، الى الوجود الفرنسي على المتوسط وفي الشرق الأوسط، وصولاً الى تأثير فشل المبادرة الفرنسية في لبنان على الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة. لذلك، لم تتخلَّ فرنسا عن دورها في لبنان، وانتقلت من سياسة الجزرة الى سياسة العصا. لكن حتى الآن لا يبدو أنّ هذه العصا أخافت المعنيين.
كانت زيارة وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان للبنان دون المتوقّع من المسؤولين، أقلّه على مستوى تأليف الحكومة. ولم يُشكّل ما أعلنه من إجراءات فرنسية تجاه المعرقلين والمعطّلين مفاجأة، فكان معروفاً ولم يؤدِّ الى أي تراجع حكومياً، في انتظار تأثير هذه الزيارة على الحركة الداخلية في الأيام المقبلة، بعد أن كان وسطاء الداخل ينتظرون إنجازاً من خلال هذه الزيارة، ويراهنون على مضمونها، علّها تؤدّي الى دفعٍ ما، فكان العكس، بحيث ظهر أنّ موفد الرئيس الفرنسي لا يريد التحدث في موضوع التأليف ورفض الدخول في التفاصيل الحكومية.
ويسأل معنيون: «ماذا حملت زيارة لودريان لكي تؤدي الى نتائج؟»، لافتين الى أنّه لم يتحدث في موضوع الحكومة، معتبراً أنّه شأن داخلي. أمّا الذي أكّده خلال لقاءاته مع كلّ من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري والرئيس المكلّف تأليف الحكومة سعد الحريري، الذين التقاهم فقط لأنّهم يمثّلون لبنان والمؤسسات، وليس للدخول في التجاذبات السياسية، كما أعلن، فكان أنّ القيادات السياسية لم تفِ بالتزاماتها أمام الرئيس إيمانويل ماكرون خلال لقاء قصر الصنوبر في 1 أيلول 2020، وأنّ عدم الإيفاء هذا عرقل تأليف حكومة والإصلاحات المنتظرة، وإزاء ذلك ستتخذ فرنسا إجراءات في حق البعض منهم، تماماً كما أعلن لاحقاً في اللقاء الصحافي الذي عقده أمس قبيل مغادرته بيروت.
في المعلن، أتى لودريان الى لبنان لكي يتابع نشاطات البعثات الفرنسية بعد انفجار المرفأ في 4 آب 2020، والمساعدات التربوية والانسانية والاجتماعية التي تقدّمها فرنسا للمجتمع اللبناني، ولكي يلتقي المجتمع المدني ويرى حاجاته، إذ تعتبر فرنسا أنّه شريكها في متابعة معالجة تداعيات انفجار المرفأ. وعلى هامش الزيارة، مرّر الموقف الفرنسي من أنّ الطبقة السياسية (classe politique) عرقلت تأليف حكومة، ما يناقض المبادرة الفرنسية، وأنّه ستكون هناك إجراءات إزاء ذلك.
في لقائه مع عون، تحدث لودريان عن إجراءات تجاه الطبقة السياسية، من دون أن يُسمِّي أو يصنّف أو أن يكشف عن هذه الإجراءات ومن ستشمل، ولم يعطِ أي تفصيل عن هذا الموضوع. من جهته، لم يسأل رئيس الجمهورية لودريان عمّن ستطاول هذه الإجراءات، بل شرح له مسار «عدم التأليف»، والعراقيل أمام ولادة الحكومة، ومنها سفر الحريري الدائم وغيابه، وعدم تجاوبه مع الدعوات التي وُجّهت إليه لجهة أن تراعي الحكومة الميثاقية السياسية وأن تكون متوازنة. وأوضح عون للموفد الفرنسي النقاط الحكومية كلّها، ووضعه في جو التأليف، لينقله الى ماكرون لكي يعرف حقيقة الموقف. كذلك أكّد عون للودريان «أنّنا غير مسؤولين عمّا يحصل، بل إنّ عدم حماسة الرئيس المكلّف وعدم تأليفه حكومة جديدة، إضافةً الى البحث الذي يجريه مع الأفرقاء اللبنانيين والأحزاب باستنسابية واجتزاء، هي العوامل التي أوصلتنا الى هنا والى عدم التأليف». وقال له، إنّ «الحريري هو المسؤول، ويبقى مسافراً، وهناك تضييع للوقت، وهناك كلفة لتضييع الوقت هذا، وإنّ الحريري لا يتقدّم أي خطوة الى الأمام بل يبقى مسافراً». وأكّد عون لضيفه الفرنسي «أننا حاولنا وأكّدنا أننا لا نريد الثلث الضامن في الحكومة، لكن الحريري لا يتجاوب»، مشيراً الى أنّه «أعلن رسمياً في 6 مناسبات أنّ الثلث المعطّل ليس مطلوباً، ومع ذلك لم يحصل أي تجاوب من الحريري».
هذه النقاط كلّها وغيرها أوضحها عون للودريان، الذي لم يعلّق بل اكتفى بالإصغاء، وبالتذكير من وقت لآخر خلال اللقاء بمسألة أنّ الطبقة السياسية التزمت أمام ماكرون بتعهدات لم تفِ بها، ما أدّى الى عرقلة في الحياة السياسية، وأنّ فرنسا ستتخذ إجراءات إزاء ذلك، ولم يدخل في تفاصيل تركيبة الحكومة نهائياً، ولم يقدّم طروحات أو حلولاً، كذلك لم يقل جديداً في ما يخص الملف الحكومي.
وفي حين أنّ لودريان استخدم كلمة إجراءات وليس عقوبات (sanctions)، لا يسود اعتقاد في القصر الجمهوري بأنّ هذه الإجراءات ستغيّر شيئاً في الواقع الحكومي، بل إنّ ما يغيّر هو «إعادة طرح موضوع الحكومة مجدداً، وأن يأتي الحريري الى القصر ويتفق مع الرئيس عون، طالما أنّه بات هناك إجماع على حكومة من 24 وزيراً وعلى توزيع الحقائب، فلا ضرورة لهذا العناد».
وبالنسبة الى أوساط عون، إنّ المفتاح الوحيد للباب الحكومي هو أن يضع الحريري صيغة وزارية جديدة ويقترحها على رئيس الجمهورية «هذا إذا كان يرغب في التأليف، في ظلّ الحديث عن إغلاق سعودي في وجهه وعن أسباب خارجية يتأثر بها. فحتى الآن يظهر أنّ ما يريده الرئيس المكلّف هو تأليف حكومة لا تراعي شروط الميثاقية والشراكة الوطنية».